خطبة الجمعة 7 يوليو 2023م بعنوان : عناية الإسلام بالنشء للدكتور مسعود عرابي
خطبة الجمعة القادمة 7 يوليو 2023م بعنوان : عناية الإسلام بالنشء للدكتور مسعود عرابي، بتاريخ 19 ذو الحجة 1444هـ ، الموافق 7 يوليو 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 7 يوليو 2023م بصيغة word بعنوان : عناية الإسلام بالنشء ، للدكتور مسعود عرابي
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 7 يوليو 2023م بصيغة pdf بعنوان : عناية الإسلام بالنشء ، للدكتور مسعود عرابي
عناصر خطبة الجمعة القادمة 7 يوليو 2023م ، بعنوان : عناية الإسلام بالنشء ، للدكتور مسعود عرابي.
أولًا: غرسُ القيمِ والفضائلِ، وتعليمُ الفرائضِ.
ثانيًا: ثمــراتُ النشأةِ الصالحةِ على الفــردِ والمجتمعِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 7 يوليو 2023م ، بعنوان : عناية الإسلام بالنشء ، للدكتور مسعود عرابي ، كما يلي:
عنايةُ الإســـلامِ بالنشءِ
الحمدُ للهِ الذي تواضعَ كلُّ شيءٍ لعظمتِه. وذلَّ كلُّ شيءٍ لعـزتِه، وخضعَ كلُّ شيءٍ لملكِه، واستسلمَ لقدرتِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، القائلُ فيما أخرجَهُ الترمذيُّ وغيرُه، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ ــ رضي اللهُ عنه ـــ : « لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ». اللهُمّ صلِّ عليه صلاةً تُقضَي بها الديون، وتُكشفُ بها الهمومُ، وسلمْ تسليمًا كثيرًا، وعلى آلِ بيتِه وأصحابِه والتابعين، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
وبعــدُ … إنّ خطبتنَا هذه بعـــونِ اللهِ ومـددِه وعنايتِه تدورُ حــولَ هذين العنصـرينِ:
أولًا: غرسُ القيمِ والفضائلِ، وتعليمُ الفرائضِ.
ثانيًا: ثمــراتُ النشأةِ الصالحةِ على الفــردِ والمجتمعِ.
العنصر الأول من خطبة الجمعة 7 يوليو 2023م بعنوان : عناية الإسلام بالنشء
أولاً: غرسُ القيمِ والفضائلِ، وتعليمُ الفرائضِ.
الأسرةُ هي اللبنةُ الأولَى في المجتمعِ، وصلاحُه يبدأُ بصلاحِهَا، حظيتْ بمكانةٍ عظيمةٍ في الإسلامِ، وقد اقتضَى عدلُ اللهِ في الخلقِ أنْ يُخرجَهُم مِن بطونِ أمهاتِهم على فطرةِ الإسلامِ، وهي الخاليةُ مِن الشوائبِ، وكافةِ أمراضِ القلوبِ والنفوسِ، ففي الصحيحينِ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ». ثُمَّ يَقُولُ، أَبُو هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ}. [الروم: 30].
وفطرةُ اللهِ تعالى لخلقِه: أنَّه خلقَهُم قابلينَ للتوحيدِ ودينِ الإسلامِ، غيرَ نائين عنه ولا منكرين له، لكونِه مجاوبًا للعقلِ، مساوقًا للنظرِ الصحيحِ، حتى لو تركُوا لما اختاروا عليه دينًا آخر، ومَن غوَى منهم، فبإغواءِ شياطينِ الإنسِ والجنِ. وقولُه تعالى: { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }. أي: ما ينبغِي أنْ تُبدّلَ تلك الفطرةُ أو تُغيرَ.[ تفسير الزمخشري ].
وهذه الآيةُ الكريمةُ تشتملُ على ثلاثةِ أمورٍ: الأمرُ الأولُ: أنّ اللهَ فطرَ الناسَ على الدينِ الحنيفِ، فخلقَهُم في أصلِ النشأةِ على الفطرةِ السليمةِ، فكلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ حتى يكونَ أبواهُ هما اللذانِ يخرجانِه عن هذه الفطرةِ، فإذا تُركَتْ النفسُ وفطرتُهَا لم تؤثرْ على محبةِ بارِيهَا وفاطرِهَا وعبادتِه وحدَه شيئًا، ولم تشركْ به، ولم تجحدْ كمالَ ربوبيتِه، وكان أحبَّ شيءٍ إليها وأطوعَ شيءٍ عندها هو التوحيدُ والامتثالُ للهِ تعالى بأوامرِه واجتنابِ نواهِيهِ.
الأمرُ الثاني: أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى، هدى الناسَ هدايةً عامةً بما أودعَهُ فيهم مِن المعرفةِ، ومكنَهُم مِن أسبابِهَا، وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأرسلَ إليهم الرسلَ، وعلّمَهُم ما لم يكونُوا يعلمون.
والأمرُ الثالث: أنَّ الفطرةَ التي فطرَ اللهُ تعالى الناسَ عليها قابلةٌ للتغييرِ والانحرافِ عن الأصلِ الذي خلقُوا عليه بأسبابٍ تكونُ مِن الناسِ، وهذا المعنى مستفادٌ مِن قولِه تعالى: { لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ }. أي: لا تبدلُوا خلقَ اللهِ فتغيرُوا الناسَ عن فطرتِهِم التي فطرَهُم اللهُ عليها. [ الأمثال القرآنية ].
وللمحافظةِ على سلامةِ الأسرةِ كي تنتجَ جيلًا صالحًا، يساهمُ في حفظِ الدينِ والقيمِ، ويخشَى التحررَ والانفلاتِ الأخلاقي، علمنَا رسولُ اللهِ ﷺ كيف ندربُ النشءَ على تعاليمِ الإسلامِ، وفرائضِ الإسلامِ وقيمِ الإسلامِ، ولا يُتركُ الطفلُ حتى يشتدَّ عودُه، وينفلتَ عقالُه، ويصبحَ عصيًّا على الترويضِ والتعليمِ، بل يجبٌ أنْ تتفتحَ عيناهُ على قيمِ الإسلامِ، وفرائضِ الإسلامِ، وتعاليمِ الإسلامِ وهو في سننٍ مبكرةٍ، حتى يكونَ قابلًا للتشكيلِ.
وفي هذا الصددِ يقولُ الشاعرُ:
وَيَنشَأُ ناشِــــــئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَـــــــــــــــــــــــوَّدَهُ أَبوهُ
وَمـــــــا دانَ الفَتى بِحِـــــجىً وَلَكِن يُعَلِّمُـــــهُ التَدَيُّنَ أَقرَبــــــــوهُ
ولتأكيدِ هذا المعنى، علّمَ رسولُ اللهِ الآباءَ كيف يكونُ الاهتمامُ بالأبناءِ، فغرسَ العقيدةَ السليمةَ، وحسنَ التوكلِ على اللهِ، وكمالَ الاستعانةِ به، والصبرَ على المصائبِ، والاستغناءَ عن الناسِ، علّمَهُ رسولُ اللهِ ﷺ لعبدِ اللهِ بنِ عباسٍ في سنِّ صغيرةٍ، فعندَ الترمذِي وأحمدَ وغيرِهِمَا، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ: « يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ».
أي: اعملْ له بالطاعةِ، ولا يراكَ في مخالفتِه، فإنّك تجدهُ تجاهَك في الشدائدِ كما جرَى للثلاثةِ الذين أصابَهُم المطرُ فأووا إلى غارٍ، فانحدرتْ صخرةٌ، فانطبقتْ عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتُم مِن الأعمالِ الصالحةِ، فاسألُوا اللهَ تعالى بها، فإنّهُ ينجيكٌم، فذكرَ كلُّ واحدٍ منهم سابقةً سبقتْ لهُ مع ربِّه، فانحدرتْ عنهم الصخرةُ فخرجُوا يمشُون. [ شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد].
قال بعضُ السلفِ: بحسبكَ مِن التوسلِ إليهِ أنْ يعلمَ مِن قلبِكَ حسنَ توكلِكَ عليه، فكم مِن عبدٍ مِن عبادِه قد فوّضَ إليه أمرَهُ، فكفاهُ منه ما أهمَّه، ثم قرأَ: { ومَن يتقِ اللهَ يجعلْ لهُ مخرجًا * ويرزقُه مِن حيثُ لا يحتسب} [الطلاق: 2 – 3]. وحقيقةُ التوكلِ: هو صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللهِ عزّ وجلّ في استجلابِ المصالحِ، ودفعِ المضارِّ مِن أمورِ الدنيا والآخرةِ كلِّها، فالأمورُ كلُّهَا إليه، وتحقيقُ الإيمانِ بأنَّه لا يعطِي ولا يمنعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ سواهُ. قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: التوكلُ جماعُ الإيمانِ.[ جامع العلوم والحكم ].
ثم أمرَ رسولُ اللهِ ﷺ الآباءَ بأنْ يأمرُوا الأبناءَ بالصلاةِ متى بلغُوا سبعَ سنين، ويضربونَ على التقصيرِ متى بلغُوا العشرَ، فعند أبي داودَ وأحمدَ وغيرِهما مِن حديثِ عمرو بنِ شعيبٍ عن أبيهِ عن جدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: « مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ».
والحديثُ فيه دليلٌ على وجوبِ أمرِ الصبيانِ بالصلاةِ إذا بلغُوا سبعَ سنين، وضربِهِم عليها إذا بلغُوا عشرًا، والتفريقِ بينهم إذا بلغُوا عشرَ سنين، لأنّ سنَّ السبع يروضُ فيه على الصلاةِ، وسنَّ العشرِ يضربُ على تركِهَا، كي لا يتعودَ على الإهمالِ والتضييعِ.
قال الإمامُ الطيبِي: وَإِنَّمَا جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ فِي الطُّفُولِيَّةِ تَأْدِيبًا وَمُحَافَظَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمُ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَيَجْتَنِبُوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا. [ مرقاة المفاتيح ].
وخصَّ الصلاةَ بالتعليمِ في الصغرِ، لِمَا فيها مِن النظامِ والقيمِ العليا، والفضائلِ التي لا تتناهَى، فهي حسنُ أدبٍ مع اللهِ، وكذا مع الخلقِ، وتدريبٌ على النظامِ والنظافةِ، وحفظِ الوقتِ، وجمالِ الترتيبِ، حتى قالوا عنها: الصلاةُ لو لم تكنْ مِن العباداتِ لعُدتْ مِن صالحةِ العاداتِ، طهارةُ أردانِ، ورياضةُ أبدانٍ، وشتّى فضائلَ يشبُّ عليها الجواري والغلمان.
ثم التدريبُ على الصومِ، وهو تعويدٌ على الصبرِ والتحملِ، وحبسُ النفسِ عن مألوفاتِهَا، فالشدائدُ تصنعُ الرجالَ، ورغدُ العيشِ صعبُ المنالِ، ودوامُ النعمِ مِن المحالِ، فلابُدّ مِن ترويضِ الصغيرِ على عبادةِ الصومِ لِمَا فيها مِن التربيةِ والتهذيبِ، ففي الصحيحينِ مِن حديثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ، الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: « مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ » فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ ».
وفي روايةٍ لمسلمٍ: « وَنَصْنَعُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ ـــ الصوف ـــ، فَنَذْهَبُ بِهِ مَعَنَا، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ، أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ ».
في الحديثِ دليلٌ على استحبابِ التدريبِ للصبيانِ الصغارِ على الصيامِ والعباداتِ، رجاءَ بركتِهَا لهم، وليتعودُوا عليها، وتسهلُ عليهم إذا لزمتهُم عندَ البلوغِ، وليستْ هناك عنايةٌ بالنشءِ أعزُّ ولا أشرفُ مِن هذه العنايةِ، والأبُّ مسئولٌ عن تهذيبِه وتدريبِه وتعويدِه على فرائضِ الإسلامِ ومكارمِ الأخلاقِ، حتى ينقشَ الحسنُ في طباعِه، ولا يجدُ الخبيثُ مكانًا لاستقبالِه.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة 7 يوليو 2023م بعنوان : عناية الإسلام بالنشء
ثانيـًا: ثمــراتُ النشأةِ الصالحةِ على الفــردِ والمجتمعِ.
للتربيةِ السليمةِ والنشأةِ الصالحةِ المستقيمةِ ثمراتٌ تنعكسُ بالإيجابِ على الفردِ والمجتمعِ، فالعنصرُ الصالحُ الذي تربّى على المبادِئ الإسلاميةِ والأخلاقِ الراقيةِ، نافعٌ لنفسِه ولوالديهِ، ومفيدٌ لمجتمعِه، وثمارُهُ أُكُلُهَا دائمٌ وظلُّهَا دائمٌ، وأولُ مَن يجنيهَا، ويتلذذُ طعمهَا، ويتظللُ بظلهَا هم الآباءُ، ولا يقفُ الأمرُ عند حدِّ النفعِ الدنيوِي بل يتعداهُ ليكونَ بابَ حسناتٍ في قبرِ الوالدينِ بعد انقطاعِ عملِه، فعندَ الترمذِي وغيرِه، مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ».
قال القاضِي عياض: معناه أنَّ عملَ الميتِ منقطعٌ بموتِه، لكن هذه الأشياء؛ لمّا كان هو سببُهَا مِن اكتسابِه الولد، وبثِّه العلمَ عند مَن حملَه عنه أو إيداعِه تأليفًا، بقيَ بعدَه، وإيقافِه هذه الصدقة، بقيتْ له أجورُهَا ما بقيتْ ووجدتْ. [ حاشية السيوطي على سنن النسائي ].
وليس هناك أعظمُ للمرءِ مِن أنْ يحسنَ الغرسَ، ويحسنَ الرعايةَ حتى يجنِي أطايبَ الثمارِ، وما أطيبَ أنْ تجنِىَ الثمارَ في دارِ القرارِ بعدَ النفعِ بها في دارِ الدنيا، فحسنُ تربيةِ الأولادِ ثمرتُه تُجنَى في الدنيا ويستمرُّ نفعُهَا في الآخرةِ، وكم رأينَا مِن نماذجَ يُحتذَي بهَا في زمنِنَا هذا يحسنُون إلى الآباءِ، ويعظمونَ شأنَهُم، ويبذلُون الغالِي والنفيسَ لراحتِهم وإسعادِهم، رغمَ ضيقِ الحالِ، وقلةِ المالِ، وإنَّما السببُ الحقيقيُّ، هو أنَّ الأبَّ أحسنَ التربيةَ، وأخلصَ النيةَ، وحرصَ على أنْ يخرجَ أحسنَ الذرية، فتحققَ له المرادُ، وسعدَ بزرعِه يومَ الحصادِ.
وفي المقابلِ، منَ انشغلُوا بجمعِ المالِ، ولم يحسنُوا تربيةَ العيالِ لمَا تقدمَ بهم الدهرُ، وخارتْ بهم القُوى، وعجزُوا عن الحركةِ، رُفعتْ عليهم القضايا بتهمةِ السفهِ؛ ليحجرُوا على أموالِهم، ويحرمُوهم مِن كسبِهم، وينفردُوا بالمالِ في حياتِهم، لذا نبّهَ رسولُ اللهِ على أنَّ أعظمَ كسبِ الرجلِ، هو حسنُ تربيةِ ولدِه، فقالَ ﷺ: « إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ ». [ النسائي وغيره ]. فلَمّا كان هو الساعِي في وجودِ الولدِ، كان عملُه مِن كسبِه.
ومِن ثمراتِ حسنِ التربيةِ ما يعودُ على الولدِ، فتصنعُ منه شابًا قادرًا على العطاءِ، صلبًا في مواجهةِ التحدياتِ والفتنِ، كالشجرةِ الطيبةِ أصلُهَا ثابتٌ، وفرعُهَا في السماءِ، وتُؤتِي أكلَهَا لكلِّ مَن قصدَهَا، غيورًا على دينِه، ووطنِه وعرضِه، فالغيرةُ في القلبِ بقدرِ الإيمانِ، والمسلمُ الصحيحُ الإسلام لا يقبلُ الذلَّ والمهانةَ، ويسعى لرفعةِ دينِه ووطنِه، ولا يقبلُ الخيانةَ، فعزُّ الدينِ بعزِّ الأوطانِ، وعزُّ الأوطانِ عزٌّ للدينِ، ورفعةٌ لقدرِ المسلمين.
مِن النماذجِ المشرقةِ في تاريخِ أمةِ الإسلامِ، ما جاءَ في الصحيحين، مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ رضي اللهُ عنه، قال: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ: مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: « أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ » فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: « كِلَاكُمَا قَتَلَهُ »، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ.
ثم تكونُ الثمرةُ الكبرَى للتربيةِ الصالحةِ للمجتمعاتِ التي نعيشُ فيها، فبفضلِ حسنِ التربيةِ، يعمُّ السلامُ والوئامُ، وتنتشرُ الفضائلُ وتتلاشَى الرذائلُ، ويعيشُ الناسُ على أساسٍ مِن المحبةِ والإخاءِ، شعارُهُم الاعتصامُ والتماسُكُ، والبعدُ عن الخصامِ والتشابِك، فالطاعةُ جالبةٌ للأرزاقِ والتلاحمِ والاتفاقِ، والمعصيةُ مآلُهَا الحرمانُ، والخيبةُ والخسرانُ، والضيقُ والحرمانُ، فأحسنُوا هديةَ اللهِ عبادَ اللهِ، واتقُوا اللهَ في أولادِكُم، فإنّكُم مسئولونَ ومحاسبونَ عنهم، وكفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يضيعَ مَن يعول.
اللهم احفظْ أولادنَا مِن كلِّ مكروهٍ، ودبِّرْ لهم ولنَا، واحفظْ السنتنَا وإيّاهُم مِمّا يؤذِي عبادَك، واجعلنَا مِمّن ربُّوا فأحسنُوا .. واحفظ اللهم مصرَ وأهلَهَا وولاةَ أمرِهَا مِن كلِّ سوءٍ .. اللهُمّ آمين!
بقلم: مسعود عرابي … عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر.
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف